لم يتصور أحد منهم أن يكون نزيلا بدار الأطفال في يوم من الأيام، وأن يعيش فترة المرح والبراءة محروما من حضن والديه؛ هم من الجنسين، يعيشون تجربة مريرة بعدما تخلى عنهم الآباء ورافقهم سوء الطالع، ليصبحوا بذلك مادة دسمة للبحث والتقصي، ومجرد أرقام تتزايد وتتساقط كما تسقط أوراق الخريف.
هنا في حي العدير وسط حاضرة دار الضمانة، غير بعيد عن الإقامة العاملية، حيث يقيم مهدي شلبي، عامل إقليم وزان، يقع مركز الأطفال في وضعية صعبة. وسط هذه المنشأة صادفنا أطفالا بعمر الزهور؛ هؤلاء ليس من حقهم اللعب على غرار أقرانهم، ببساطة لأن واقعهم المؤلم اختار أن يطمس حقوقهم وأحلامهم بأن يعيشوا طفولتهم بعيدا عن آبائهم باحثين عن حنان مفقود.
“أحضان”.. جمعية تهب الدفء والحنان
يعد المركز المخصص للأطفال في وضعية صعبة، الذي تشرف عليه جمعية “أحضان لحماية الأطفال في وضعية صعبة” بوزان، واحدا من الفضاءات الاجتماعية التي بصمت منذ تأسيسها على مسار جمعوي حافل بالتطوع ونكران الذات من طرف كافة مكوناته، في سبيل إعادة الأمل لفئة مجتمعية في حاجة إلى عناية دقيقة ورعاية خاصة.
وراء الفرحة والابتسامة التي استقبل بها أطفال المركز طاقم هسبريس تتوارى قصص حزينة، بعضهم تنكر لهم الآباء وآخرون أضحوا وزرا ثقيلا على أسرهم اضطرت معه للتخلي عنهم بـ “بالمركز”، ليقوم مقام الأسرة ويعوض حنان الأم ودفء الأب.
تراهن الجمعية الفتية التي أسندت إليها مهمة تسيير مركز حماية ورعاية الأطفال في وضعية صعبة بوزان على الترافع عن قضايا الطفولة، خاصة الصعبة منها، والنهوض بحقوق هذه الفئة؛ كما تهدف إلى المساهمة في الحد من ظاهرة التخلي عن الأبناء التي اتسعت رقعتها في الآونة الأخيرة بالإقليم، علاوة على تقديم مجموعة من الخدمات القانونية والاجتماعية لهذه الشريحة المجتمعية.
نورة..”ملاك ينير العتمة”
نورة اوطالب، رئيسة جمعية أحضان لحماية الأطفال في وضعية صعبة بوزان، واحدة من الثريات التي تنير عتمة عيش الأطفال المتخلى عنهم وسط هذا المركز. بعيدا عن الأضواء، تبذل نورة وهي الإطار الإداري بالمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بوزان، كل ما بوسعها من أجل تخفيف آلام ومعاناة هذه الفئة، وتذليل الصعوبات التي تواجهها، إذ بات شغلها الشاغل تقديم العون والمساعدة لهذه الفئة المجتمعية دون كلل أو ملل.
يستقبل المركز، وفق رئيسة الجمعية، الأطفال الذين يوجدون في وضعية صعبة، كالأيتام والمتخلى عنهم والأطفال في تماس مع القانون، والصغار “بدون مأوى”، والذين هم في وضعية إهمال أسري من جميع الأعمار (من الولادة إلى سن الثامنة عشرة)، حسب الإمكانيات والموارد المتاحة وما يسمح به القانون.
وأوردت اوطالب أن غالبية المستفيدين الذين يفدون على المركز يتم استقبالهم بناء على توجيه من النيابة العامة المختصة لاتخاذ التدابير اللازمة لضمان الرعاية والحماية لهم، بالإضافة إلى بعض الحالات التي قد ترد فيها على الجمعية تبليغات من الجهة نفسها للتدخل السريع من أجل التحاقها؛ ناهيك عن حالات أخرى ترد على المركز تتم إحالتها من قبل السلطة المحلية.
خدمات جليلة..
يوفر المركز، وفق نورة، الاستقبال والبيئة الآمنة للوافدين عليه، إلى جانب تمكين النزلاء الصغار من خدمات التطبيب التي يشرف عليها طبيب مختص في طب الأطفال من أجل الفحص الأولي، الذي غالبا ما يترتب عليه تتبع مستمر، بالنظر إلى ما لحق الطفل الوافد من أذى جسدي (أغلب الحالات)، قبل عرضهم على أخصائي نفسي لتشخيص الحالة، على اعتبار أن غالبية الأطفال عانوا جراء تبعات وضعيتهم الصعبة.
كما تحرص الجمعية، تؤكد الفاعلة الجمعوية ذاتها، على تسجيل الأطفال المنقطعين دراسيا من جديد بالمؤسسات التعليمية، وتوفير الدعم التربوي لمعالجة التعثرات الدراسية التي تعرقل تحصيلهم الدراسي، وتعمل كذلك على التتبع الدقيق للقاحات الأطفال منذ الولادة، وكذلك مراقبة نموهم الطبيعي بالتنسيق الدائم مع طبيبة الأطفال.
علاوة على ذلك تتدخل الجمعية من أجل تمكين كل مستفيد من الحصول على الوثائق القانونية الإدارية، سواء تعلق الأمر بتسجيله في سجل الحالة المدنية، أو وثائق أخرى؛ وهي الخدمة التي تقدم لكل طفل، سواء كان مقيما بالمركز أو غير مقيم.
إلى جانب ذلك تنظم الجمعية خارج إطار المركز مبادرات عدة تهم محاور دعم التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي، والحملات التحسيسية بالمؤسسات التعليمية، مع مبادرات إنسانية لفائدة أطفال من أسر هشة؛ كما تواكب مجموعة من الأطفال غير المستفيدين من المركز، سواء كانوا مقيمين مع أسرهم أو وصيهم الشرعي، عن طريق مجموعة من الخدمات الاجتماعية والتربوية والطبية للتخفيف من حدة الهشاشة التي يعيشونها، لا لشيء سوى إعادة إنتاج فرد صالح خادم لوطنه، مؤمن بقضيته، حسب رئيسة جمعية “أحضان”.
تحديات ومشاكل..
يشكل مركز الأطفال في وضعية صعبة بوزان فضاء حيويا لاستقبال الفئات الهشة وتقديم الدعم اللازم لهم، إلا أنه يواجه العديد من التحديات والمشاكل التي تعيق أداءه، تمس الجوانب البشرية والمالية والبنيوية، ما يجعل استمراريته رهينة بتدخل مختلف الفاعلين والجهات المعنية بشؤون الطفولة.
وفي هذا الصدد استحضرت المتحدثة ذاتها النقص الحاد الذي يواجه المركز في المربيات المؤهلات، ما يؤثر على جودة الخدمات المقدمة للأطفال، خاصة مع تنوع الفئات المستفيدة، مضيفة أن المركز يعاني من صعوبة استقبال الأطفال في وضعية إعاقة، نظرًا لغياب التكوينات الكافية في هذا المجال، وضعف تجهيز المرافق البنيوية لتلبية احتياجات هذه الفئة.
وشددت نورة على أن المركز يعتمد بشكل رئيسي على منحة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ما يجعله عرضة لتقلبات الدعم المالي؛ كما أن الاستفادة من منحة التعاون الوطني تصطدم بتدابير مسطرية معقدة وغير متناسبة مع طبيعة سوق الشغل في الإقليم، بالنظر إلى أن الكلفة المادية لـ”البروفايلات” المطلوبة مرتفعة مقارنة بما يتوفر عليه المركز من إمكانيات محدودة.
وأوردت المتحدثة أنه رغم محدودية الدعم المادي فالمركز يستقبل حالات من مختلف جماعات الإقليم، إلا أنه لا يستفيد سوى من دعم مجلس جماعة وزان، في ظل غياب مساهمات باقي الجماعات الترابية، ما يزيد من الضغوط المالية على الجمعية المسيرة، وتابعت بأن أحد الإكراهات الرئيسية التي يواجهها المركز هو انعدام تخصص الطب النفسي بالإقليم، ما يحول دون تقديم الدعم اللازم لتحسين الوضعية النفسية للأطفال، إذ يعتمد الفضاء حاليا على خدمات جمعية الحنان لإدماج الأطفال في وضعية إعاقة، في إطار تعاون محدود مع هذه الأخيرة؛ كما يفتقر إلى وسيلة نقل خاصة تساعد على تيسير عمليات التسيير والتنقل، ما يضطره إلى إيجاد حلول مؤقتة، تزيد من الأعباء الإدارية والمالية.
دعوة إلى التقائية الفاعلين
قالت أوطالب إن ملف الطفولة ليس بالموضوع اليسير، لاسيما حين يتقاطع مع الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، موردة أنه مع تدهور منظومة الأسرة والقيم، وغياب فلسفة علاجية ناجعة، تصبح هذه الأزمة أشبه بـ”زلزال” يهدد المجتمع بأسره إذا لم تتدخل الجهات المختصة لتوفير حلول فعالة ومستدامة.
أمام هذه التحديات تؤكد نورة أن الوضع يتطلب التقاء جميع المتدخلين المحليين والإقليميين، من جماعات ترابية ومؤسسات عمومية، لتوفير دعم مالي وتقني ونفسي مستدام، يضمن استمرار المركز في تقديم خدماته للأطفال في وضعية صعبة، ويساهم في إدماجهم في المجتمع بشكل فعال، شاكرة شركاء المركز والمؤسسات المانحة على مساهماتهم القيمة.
بعد مغيب شمس كل يوم تخلد الأجساد الصغيرة المنهكة للنوم، فيما يتجدد الأمل مع إشراقة شمس اليوم الموالي، وكأن دفء أشعتها يغيّب كل ما سبقه من ظلم وفراغ، فهل من مجيب؟.