كشف تقرير حديث صادر عن “مجموعة الأزمات الدولية” (International Crisis Group) عن ديناميات العلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر.
التقرير، الذي يحمل عنوان “إدارة التوترات بين المغرب والجزائر”، يسلّط الضوء على مزيج معقّد من ضبط النفس، الحسابات الدبلوماسية، والمنافسات الجيوسياسية بين البلدين.
وتشير الوثيقة إلى أنّه رغم تجنّب وقوع حرب عسكرية مباشرة فإنّ احتمال اندلاع مواجهة مازال قائمًا بسبب الطموحات المتباينة على المستويين الإقليمي والدولي. ويرجع الفضل في تفادي الصراع المسلّح إلى ما أسماه التقرير “عامل ضبط النفس”، الذي أتاح الحفاظ على استقرار نسبي، لكنه استقرار هشّ وغير مضمون.
أوضح المصدر ذاته أنّ التصعيد المستمر بين البلدين ليس فقط نتيجة خلافات تاريخية، بل يعود أيضًا إلى عوامل معاصرة، مثل طموحات جبهة البوليساريو، والسباق المحموم على التسلّح، والتقلّبات غير المتوقعة في الديناميات الدولية، بما في ذلك تأثيرات إدارة ترامب سابقًا والتوترات في العلاقات الأمريكية-الأوروبية.
ومن الجوانب البارزة التي تناولها التقرير الدعم الصريح الذي تلقاه المغرب من كلّ من فرنسا وإسبانيا في قضية الصحراء المغربية، وهو ما عمّق عزلة الجزائر دبلوماسيًا. ورغم محاولة باريس ومدريد الحفاظ على علاقات متوازنة مع الجزائر إلا أن انحيازهما الواضح للموقف المغربي وضع الجزائر في موقف دفاعي.
كان الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، في ديسمبر 2020، نقطة تحول دبلوماسية عزّزت ميزان القوى لصالح المملكة. وساهمت جهود المغرب لافتتاح قنصليات أجنبية في مدينتي العيون والداخلة في ترسيخ سيادته على المنطقة المتنازع عليها، بينما واصلت الجزائر تمسّكها بدعم البوليساريو، ما زاد من عزلتها الدولية.
واعتمد المغرب، تحت قيادة الملك محمد السادس، نهجًا دبلوماسيًا نشطًا ومتنوعًا، بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على الغرب. وأبرزت الوثيقة أهمية الجولات الملكية المتكررة في إفريقيا، التي مكّنت المغرب من تعزيز تحالفاته داخل القارة، وبلغت ذروتها بعودة المملكة إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017.
ورغم الدعوات لضبط النفس حذّر التقرير من خطر تصعيد عسكري تغذّيه عوامل عدّة؛ فالسباق المتسارع للتسلّح بين المغرب والجزائر يشكّل تهديدًا مستمرًا، إذ تستثمر الرباط في تقنيات متقدمة مثل الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الحديثة، فيما تعتمد الجزائر على شراكتها التقليدية مع روسيا لتعزيز ترسانتها العسكرية التقليدية.
وتلعب جبهة البوليساريو دورًا محوريًا في تصعيد التوترات، من خلال تحركاتها العدائية والخطاب التصعيدي. ودعا المصدر المذكور القوى الأوروبية إلى العمل على الحد من مبيعات الأسلحة للجانبين، بالإضافة إلى مواجهة الخطابات العدائية المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تزيد من حدة الانقسامات.
وتناولت الوثيقة دور المنصات الرقمية كعامل يؤجّج الخلافات بين الشعبين، إذ أصبحت مجالًا خصبًا لنشر خطاب الكراهية والدعاية المغرضة. وحثّ الخبراء على ضرورة وضع ضوابط صارمة للحد من انتشار التضليل والتحريض على العنف.
ورغم قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر عام 2021 أشار التقرير إلى أن المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، تبنّى موقفًا يدعو إلى الحوار والمصالحة. ورغم رفض الجزائر هذه الدعوات إلا أنّها تعكس إرادة مغربية للإبقاء على باب الحوار مفتوحًا، شريطة الالتزام بالاحترام المتبادل والتخلّي عن المواقف المتشدّدة.
وخلص المصدر ذاته إلى أنّ النزاع بين المغرب والجزائر ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو أيضًا صراع أيديولوجي؛ فالمغرب يتبنى نهجًا براغماتيًا حديثًا يسعى من خلاله إلى تنويع شراكاته والاندماج في الديناميات العالمية الجديدة، وفي المقابل تبقى الجزائر عالقة في رؤى قديمة موروثة من صراعات الماضي.
وأشارت الوثيقة إلى أن عزلة الجزائر ليست دبلوماسية فحسب، بل هي أيضًا اقتصادية وسياسية، إذ تعتمد بشكل أساسي على مواردها الطاقية دون السعي إلى التكيّف مع تحديات القرن الحادي والعشرين. بينما يعوّل المغرب على سياسات شاملة ودبلوماسية مرنة لتعزيز مكانته الإقليمية.
ورغم التوترات يؤكد التقرير وجود فرص للتهدئة إذا ما تعاونت القوى الدولية، لاسيما الأوروبية، لتشجيع الحوار والحد من التسلّح وخلق بيئة مواتية للمصالحة. ويبقى السؤال الأهم: هل القادة في كلا البلدين مستعدون لتجاوز خلافاتهم التاريخية وبناء مستقبل مشترك؟.
بينما يبدو المغرب ماضياً في هذا الاتجاه، يبقى على الجزائر إعادة ترتيب أولوياتها لتجنّب مزيد من التهميش.