يشكّل توقف نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، بعد انتهاء مدة الاتفاقية في الأول من يناير/كانون الثاني 2025، تهديدًا هيكليًا لقدرات القارة العجوز في الحفاظ على مكانتها الاقتصادية والصناعية العالمية.
وتواجه أوروبا شتاءً صعبًا؛ إذ تزايد الطلب على التدفئة مع بداية موجات البرد في أنحاء القارة، ما زاد من الضغوط الصعودية على أسعار الغاز في أوروبا.
ويتبقى أقل من شهر على انتهاء صلاحية اتفاقية نقل الغاز بين موسكو وكييف، ما يضع أوروبا في ورطة بفقدان جزء من إمداداتها في ذروة موسم التدفئة، إذ تستعد شركة "غازبروم" الروسية لسيناريو وقف تدفّق الغاز عبر أوكرانيا مع انتهاء صفقة العبور الحالية في نهاية العام الجاري 2024.
ووفقًا لتحديثات القطاع لدى منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عام، ما يعيد إلى الأذهان أزمة الطاقة التي عصفت بالقارة عام 2022، والتي أدت إلى إغلاق العشرات من المصانع، وخفض الشركات أنشطتها ووظائفها، إذ أدت أسعار الغاز المرتفعة إلى تقويض قدرتها التنافسية.
وتتواصل الجهود الأوروبية لمواجهة أزمة الإمدادات المرتقبة وتعويض الفجوة عبر واردات الغاز المسال، ما زاد من المنافسة مع الأسواق الآسيوية على الإمدادات المتاحة من الولايات المتحدة والشرق الأوسط، إذ استوردت أوروبا، في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، نحو 170 شحنة من الغاز الطبيعي المسال، بحجم 11.3 مليار متر مكعب.
أسعار الغاز في أوروبا
يتوقع رئيس أبحاث السلع والمشتقات المالية في بنك أوف أميركا، فرانسيسكو بلانش، أن تتجاوز أسعار الغاز في أوروبا حاجز 70 يورو (74.06 دولارًا) لكل ميغاواط/ساعة في العام المقبل 2025، مقارنة بـ50 يورو (52.90 دولارًا) حاليًا، ما يمثّل 5 أضعاف التكلفة في الولايات المتحدة، إذ ساعد التوتر الناجم عن انتهاء صلاحية اتفاق نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا في تعزيز عمليات الشراء.
وأظهرت بيانات حديثة تجاوز أسعار الغاز في أوروبا حاجز 48 يورو (50.78 دولارًا) لكل ميغاواط/ساعة لعقود الشتاء المقبل، مع توقعات بارتفاعها مع استمرار انخفاض المخزونات، حسبما طالعته منصة الطاقة المتخصصة.
وعادةً ما تستعمل شركات الغاز في أوروبا وحدات القياس "غيغاواط" و"تيراواط" في تعاملاتها الأوروبية (غيغاواط/ساعة = 3.2 مليون قدم مكعبة من الغاز)، و(تيراواط/ساعة = 3.2 مليار قدم مكعبة من الغاز).
وازداد الوضع سوءًا مع انتهاء اتفاقية نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، وسط توقعات بوقف التدفقات تمامًا، وهو ما يعمّق أزمة الإمدادات في وقت تكون فيه الحاجة إلى التدفئة في أوروبا على أشدها.
تخزين الغاز
تشير التقارير إلى أن مرافق تخزين الغاز في الاتحاد الأوروبي ممتلئة بنسبة 85% فقط، أي أقل بـ10% مقارنة بالعام الماضي 2023، أي بنحو 10 مليارات متر مكعب، ما يترك القارة في وضع ضعيف أمام موجات البرد القاسية.
وقد تنخفض المخزونات الأوروبية إلى 39% فقط بنهاية الموسم الشتوي، حتى في حال غياب الطقس القاسي، ما يعقّد محاولات إعادة التخزين في الصيف المقبل، وفقًا لمحللين من "بلومبرغ إنتليغنس".
ورغم الجهود المبذولة لزيادة مخزونات الغاز، فإن انخفاض مستوياتها بوتيرة أسرع من المعتاد يعقّد إمكانية الحفاظ على الإمدادات خلال الموسم البارد، فضلاً عن التأثير السلبي المتوقع في خطط التخزين للعام المقبل.
وقالت المحللة في كوميرزبنك، باربرا لامبريخت: "إن هذا يجعل الشتاء الحالي غير مريح بالفعل، إذ من شأن موجات البرد أن تتسبب في انخفاض مستويات التخزين بشكل أسرع مما كانت عليه خلال الشتاءين الماضيين المعتدلين نسبيًا".
وفي محاولة لحماية الإمدادات، زادت المفوضية الأوروبية خلال الأسبوع الماضي هدفها المتعلق بملء المخزونات، وهو ما قد يضيف إلى الضغوط الصعودية على الأسعار.
فقدان الغاز الروسي
يمثّل فقدان الغاز الروسي الذي كان يُعدّ خيارًا اقتصاديًا نسبيًا، صدمة كبيرة لقطاع الصناعة الأوروبي، منذ بداية الأزمة، إذ أغلقت عشرات المصانع أبوابها، ما أدّى إلى فقدان نحو مليون وظيفة خلال السنوات الـ4 الماضية، وفقًا لتقارير اقتصادية.
ويعاني القطاع الصناعي الأوروبي من تناقص القدرة التنافسية بسبب ارتفاع أسعار الغاز والطاقة بوجه عام، التي تضاعفت بمقدار 4 إلى 5 أضعاف مقارنة بالولايات المتحدة التي يُتداول الغاز فيها عند 3.095 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، ما يعادل 10.02 يورو لكل ميغاواط/ساعة.
وأعرب قادة الصناعة عن قلقهم من استمرار هذا الوضع، إذ وصف الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، فقدان الغاز الروسي بـ"الكارثة الاقتصادية".
وأضاف دراغي، في تقرير عن القدرة التنافسية لأوروبا صدر في سبتمبر/أيلول الماضي: "سيظل الوقود الأحفوري ضروريًا لبقية العقد الجاري، في ظل عدم كفاية البدائل لتلبية الطلب الصناعي".
وفي ألمانيا، تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة خطر التآكل التدريجي، إذ دفعت تكاليف الطاقة المرتفعة العديد منها إلى التفكير في نقل عملياتها إلى الخارج.
وفي هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجرته غرف التجارة الألمانية، في أغسطس/آب الماضي، أن ارتفاع أسعار الطاقة ونقص إمدادات الطاقة الموثوقة يعوقان الإنتاج الصناعي ويدفعان بعض الشركات الألمانية إلى التفكير في الانتقال إلى الخارج.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة يارا، سفين توري هولسيثر، إن الشركة "تحول تعرضها للطاقة بعيدا عن أوروبا"، وأشارت مجموعة الضغط الصناعية الألمانية (BDI) إلى أن أسعار الطاقة المرتفعة من بين العوامل التي تهدد القدرة التنافسية لأكبر اقتصاد في أوروبا.
وفي فرنسا، يُتوقع أن تعمل الصناعات بنسبة 70-80% فقط من طاقتها هذا الشتاء، لا سيما في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الكيماويات.
وقال رئيس جماعة الضغط الصناعية الفرنسية يونيدن، نيكولا دي وارن، إن الصناعات في فرنسا تتوقع العمل بنحو ما بين 70 و80% من طاقتها هذا الشتاء بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، ولا سيما في قطاع الكيماويات.
وقال محللون في رابوبانك: "في ظل استمرار تراجع الصناعة، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن الطلب على الغاز من هذا القطاع سوف يعود إلى الارتفاع هذا العام"، مضيفين أنه من الممكن حدوث بعض الزيادة في الطلب من قطاع التدفئة.
الآفاق الاقتصادية والصناعية في أوروبا
تبدو الآفاق الاقتصادية والصناعية في أوروبا قاتمة في ظل استمرار أزمة الغاز. فمع تآكل المخزونات وارتفاع التكاليف، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديًا مزدوجًا يتمثّل في تأمين إمدادات الطاقة وضمان بقاء القطاع الصناعي تنافسيًا.
في هذا السياق، حذّر خبراء من أن استمرار تراجع الصناعة سيؤدي إلى انخفاض دائم في الطلب على الغاز، مما يعمّق أزمة النمو البطيء في أوروبا.
وبينما تحاول الحكومات الأوروبية التكيّف مع الوضع، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى قدرة القارة على تحقيق التوازن بين أمن الطاقة والاستدامة الاقتصادية في المستقبل القريب.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصادر..