انطلقت أمس مسرحية "من زاوية أخرى" التي تشارك بها فرقة المسرح الكويتي ضمن منافسات مهرجان الكويت المسرحي الرابع والعشرين الذي يقام خلال الفترة من 4 وحتى 12 ديسمبر الجاري.
وتعد المسرحية تجربة فنية غنية بالرمزية والتفاصيل الاجتماعية العميقة، حيث تداخلت على خشبة المسرح عناصر الحياة اليومية مع العلاقات الإنسانية المتغيرة في لوحة فنية بديعة.
تميز نص المسرحية للكاتب مصعب السالم بالتشويق المستمر والتساؤلات العميقة حول مجموعة قضايا في عالم معقد، مستعرضا كيف يمكن أن نضل الطريق في سعينا نحو تحقيق غاياتنا، وكيف أن التفاصيل سواء زادت أو نقصت، تؤثر بشكل كبير على المسافة التي تفصلنا عن تحقيق أهدافنا.
حكاية قصر
أحداث المسرحية تنقلت بين أكثر من زاوية من خلال حكاية قصر تحوم حوله أجواء من الغموض والرعب، حيث تقع داخله جريمة قتل مروعة للعائلة التي تسكن فيه، ونتعرف على شخصيتين رئيسيتين: الخادم المذعور الذي يسيطر عليه شعور بأن الظلام سبب كل شيء حدث، والخادمة التي تحمل أسرارا عميقة، ويظهر المحقق في المسرحية كشخصية حاسمة، يسعى لكشف الغموض الذي يكتنف الجريمة، ويكتشف أن هناك علاقات متشابكة بين أفراد العائلة، حيث تداخلت الغيرة والطمع في حياة أفرادها، مما أدى إلى وجود الخلافات وتصعيد الأزمات، ساهم ذلك في خلق بيئة مشحونة بالتوتر، انتهت بجريمة قتل مأساوية.
المسرحية سلطت الضوء على بعض المفاهيم كالظلم والفساد والعدالة والانتقام والجريمة والعقاب، وتبنت لعبة لعبها الممثلون مع المتفرجين في سبيل حل لغز ترك خلفه العديد من التساؤلات منها: هل هنالك حقيقة مطلقة؟ هل تحتمل كل الأمور الصواب والخطأ؟ ما هو الشر وما هو الخير؟
قام المخرج محمد جمال الشطي بعمل رائع، وكانت رؤيته مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي ساهمت في تعزيز الفكرة الأساسية للعمل، وهي كيفية رؤيتنا للآخرين من خلال منظورنا الشخصي، واستخدم في سبيل ذلك الإضاءة المتغيرة والديكورات التي تتحرك وتتبدل مع تصاعد الأحداث، ليعكس تحول الأفكار والمشاعر لدى الشخصيات، كما استخدم المساحات على خشبة المسرح بطريقة ذكية لتجسيد الفجوات النفسية بين ابطال القصة، ولزيادة الشعور بالتوتر الدرامي الذي يعيشه كل ممثل في العرض.
على صعيد الأداء التمثيلي، فقد قدم الفنانون: حسن إبراهيم، أحمد العوضي، سالي فراج، ناصر الدوب، غدير حسن، ماجد البلوشي، سعد العوض، سارة العنزي، راشد الراشد، عرضا قويا ومؤثرا، واستطاع كل منهم أن يتقمص شخصيته بشكل بارع، وتنقلوا بسلاسة بين المشاعر الإنسانية التي فرضتها عليهم الظروف خلال الأحداث، تاركين أثرا جميلا في نفوس كل من شاهد المسرحية
وأعقب العرض ندوة تطبيقية شارك فيها الدكتور عباس القصاب من البحرين والدكتور عماد الشنفري من عمان. حيث تحدث المعقبان عن المسرحية وما احتوته من نص وإخراج وسينوغرافيا وغير ذلك من العناصر المسرحية.
في البداية قال القصاب: أتقدّم إلى إدارة مهرجان الكويت المسرحي في نسخته الرابعة والعشرين، ممثلة برئيسه الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لقطاع الفنون مساعد الزامل، ومدير المهرجان وائل الجابر وجميع اللجان العاملة، بالشكر والتقدير على تنظيمهم هذا المهرجان العتيد".
وأضاف: من عتبة النص الأولى (العنوان)... سنجد أنه عام يصلح أن يكون لجميع الأعمال الفنية، فكلنا يعيش في زوايا أخرى أو مختلفة، في أوقات المشاكل والمحن، ودائماً تكون هذه الزوايا حادة، فالمؤلف جعلنا في زاوية تمثل وجهة نظره، وهي فيما أعتقد وجهة نظر الجميع، وحتما هذه الزاوية جعلتنا نُعمل عقولنا قبل القراءة أو المشاهدة، ونحن نتفاعل مع النص والعرض، وبالمناسبة قد ورد العنوان في منتصف العرض تقريباً".
وتابع: تسع شخصيات تكاملت فيها الأبعاد الثلاثية للشخصية المعروفة "النفسية والجسمانية والاجتماعية، ولقد برزت هذه الصفات في هذا العمل المسرحي، ومن الشيء الجميل أن جميع الأعمار موجودة على خشبة المسرح، وكأن المؤلف يريد أن يقول لنا هذه الأسر الأرستقراطية بجميع أعمارها وهي تشكو من أزمة أو مشكلة معينة، وقد وصفها الكاتب من حيث المزاج والسمات النفسية والشخصية والاجتماعية، وما فيها من تشوهات وأطوار نفسية غريبة.
وأضح أن فكرة النص تكمن، في عائلة ثرية ارستقراطية متفككة بائسة تصطنع السعادة المزيفة، تطحنها الخطايا والاختلافات التي تودي بها إلى موت كل أفرادها، في ظروف غامضة في ليلة واحدة، ويقوم المحقق بالتحقيق للوصول إلى المجرم عن طريق طرح الأسئلة والاعتماد على الذاكرة المسترجعة (الفلاش باك)، لنكتشف أخيرا أن الأحداث التي جرت هي من مخيلة المحقق الذي يحمل بعضا من تلك الخطايا كابن وزوج وأب فاشل.
وأكد القصاب أن النص لا يفتّش عن القاتل أبدا، فهو لا يعالج الحبكة من ناحية بوليسية، بل إنه يبحث في النص عن المقتول لا القاتل، وهذه هي المفارقة الجميلة في النص البعيدة عن النمطية الموجودة عادة في الأعمال السردية كالروايات والقصص، إذ إنه يفتّش عن السبب لا المتسبب.
واستطرد: إن من الصعوبة بمكان وضع تمييز لهذا النص المسرحي، فهو واقعي في سياق نفسي واجتماعي، ويلامس مسرح العبث نوعا ما واللامعقول كذلك، والقسوة بعض الشيء، وهذا موجود في تيار ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها.
وقال: يطرح النص قضايا عدة في حياة تلك العائلة الملعونة، من خلال شخصيات منقسمة على ذاتها، غارقة في وحل الخطايا لا تعرف نفسها ولا تعرف الآخر أيضا، لذلك يلتبس عليها فهم حقيقية الحياة، وإدراك ماهية الوجود، في ظل الظلم والظلام والقسوة، وأشار إلى أن شخصية آدم استهوته، والتي اعتبرها سرّ النص، وكذلك المحقق، فـ"نحن أمام فرقة مسرحية اشتغلت واجتهد لتحقيق فرجة مسرحية مقدرة".
وختم بقوله: شاهدت مسرحا رصينا يستحق المشاهدة، أمتعني بكل ما فيه بداية من النص والفكرة والإخراج، والتمثيل والسينوغرافيا بتنوعاتها، كما أعجبني وفاء المخرج للنص.
وبدوره قال الشنفري في تعقيبه: شكرا لمن دعانا إلى هذا المهرجان... فهناك غياب عشر سنوات، ولكن الكويت عزيزة علينا"، وأضاف: يشدّ نص المسرحية القارئ من أول صفحة إلى النهاية، رغم أنه يتعلق بالجريمة، حيث إن حبكته الدرامية صعبة جدا، وهذه الأعمال تحظى بإقبالي جماهيري، بفضل ما فيها من غموض وإثارة وتشويق وتفاعل، فالمسرحية تميزت بالحبكة الذكية والشخوص، كما أن الأدوار تكاملت حيث استطاع المخرج تحويل هذا النص إلى العوامل التي تحقق الفرجة المسرحية، وفعل درامي متكامل، ومن قام بإنجاح هذا الأمر، هم الممثلون بل طاقم العمل بكامله، من الديكور والسينوغرافيا والإضاءة، وغيرها، كما أحيي المؤلف على نصه الرائع.
وأضاف: قدم لنا المخرج الموميات، وكأنها قتلت على الخشبة، وهي التي كانت في فكر المحقق، كما أعجبتني طريقة تحريك الديكور، التي شكلت الرمزية التي أوصلت الفكرة، وهذه هي الزوايا الأخرى للمسرحية.
وأكد الشنفري أن الممثلين كلهم، أبدعوا، كما كانت الموسيقى التصويرية ذات حرفية عالية، ولفت إلى مسالة قيام المحقق بأداء كل الأدوار، إضافة إلى مشهد الأب وهذه الأمور فيها الكثير من الاحترافية.