أخبار عاجلة

حق الإنسان في بيئة سليمة.. تأصيل قانوني وديني واجتماعي (مقال)

حق الإنسان في بيئة سليمة.. تأصيل قانوني وديني واجتماعي (مقال)
حق الإنسان في بيئة سليمة.. تأصيل قانوني وديني واجتماعي (مقال)

يعدّ حق الإنسان في بيئة سليمة من اللوازم الضرورية لحياة الإنسان، ويشكّل التراث المشترك للإنسانية.

إن المتابع لنشأة هذا الحق يلحظ سرعة تطوره وانتشار أحكامه في القوانين، ولكنه ما يزال في مراحله الخلاقة والتكوينية.

وقد أمكن تحديد الموقع الفعلي لحق الإنسان في بيئة سليمة عند ظهور ما يسمى "حقوق التضامن".

فقد بدأت دائرة حقوق الإنسان بالاتّساع؛ لتشمل حقوقًا ذات طابع جديد تسمى "الحقوق الجماعية"، أو "حقوق التضامن".

وقد شكلت هذه الحقوق ما يُعرف بالجيل الثالث من حقوق الإنسان، وهي الحقوق المقررة لجماعات من الناس، مثل: الحق في سلم دائم بعيدًا عن النزاعات، والحق في التنمية، وحق الاستفادة من الإرث الإنساني المشترك، وحماية التراث الثقافي، وحق الإنسان في بيئة سليمة.

التضامن بين أفراد البشرية

جاء هذا الجيل ليؤكد ضرورة التضامن بين أفراد البشرية والاشتراك على المستوى الدولي والوطني لحماية هذه الحقوق وممارستها بشكل يكفل الحفاظ على البيئة والإنسان في مواجهة التحديات التي تعترض حياة الجنس البشري، ووضع ضمانات للبشرية.

لأن هذا الحق -وبعد أن احتلّت مشكلات البيئة الإنسانية وحمايتها مكان الصدارة اليوم- أصبح يشكّل أحد الحقوق الأساسية للإنسان؛ فحق الإنسان في الحياة -وهو أحد الحقوق المدنية والسياسية- لا يمكن أن يتحقق من دون بيئة نظيفة وسليمة ومتوازنة.

كذلك لا يُتصور أن ينعم الإنسان بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية (العمل، والأجر، والغذاء، والصحة، والسكن) دون توفير البيئة المناسبة.

وقد جرى الارتقاء بهذا الحق إلى مرتبة الحقوق الأساسية، من خلال تكريسه الصريح في الدساتير والأنظمة الداخلية للدول (الدستور المغربي 2011 نموذجًا، الفصل 31، وأيضًا القانون الإطار 12-99) بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة.

ومن ثم له أساس دستوري مستقل ومتميز وغير مستمد من وثائق أخرى غير ملزِمة مثل (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) الصادر عن مؤتمر ستوكهولم في عام 1972، وإعلان ريو بشأن البيئة والتنمية الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو عام 1992.

صورة رمزية تشير إلى أهمية الحفاظ على البيئة من خلال المشروعات الخضراء
صورة رمزية تشير إلى أهمية الحفاظ على البيئة من خلال المشروعات الخضراء

طبيعة حق الإنسان في بيئة سليمة

لمعرفة ما هو حق الإنسان في بيئة سليمة، هناك بعض الأمور التي يجب أخذها في الحسبان، وهي:

النظر إلى مفهوم حقوق الإنسان في شموليته، باحتساب حق الإنسان في بيئة سليمة جزءًا لا يتجزأ من التمتع الكامل بحقوق الإنسان.

النظر إلى العلاقة التبادلية "تأثير وتأثُّر" بين الإنسان ومحيطه والبيئة بكل عناصرها الحية وغير الحية.

الأخذ بالنموذج ثلاثي الأبعاد، الذي يشمل "البيئة – التنمية – الإنسان" بالاعتماد على المنهج التحليلي الذي ينقل فيه التفكير الذهني من حكم كلّي إلى حكم خاص، وينتقل من خلاله التركيز من الحقائق الكلية الثابتة إلى التطبيق على الحقائق الجزئية العارضة للاستدلال عليها من الحقائق الكلية.

وانطلاقا من ذلك، يظل السؤال الرئيس مطروحًا: هل حق الإنسان في بيئة سليمة نوع من الترف القانوني والفكري.. أم ضرورة معيشية فرضتها المستجدات؟ وهل ارتقى العيش في بيئة سليمة فعليًا إلى مرتبة الحق الذي يرتّب لصاحبه امتيازات وواجبات تفرض عليه؟

سنعمل على معالجة موضوع حق الإنسان في بيئة سليمة من خلال تعريف الحق ونشأته وموقف الفقه من هذا الحق، ثم التطرق إلى خصائص حق الإنسان في بيئة سليمة وعلاقته بسائر حقوق الإنسان، وفي النهاية التطرق إلى هذا الحق في التنظيم الداخلي للمغرب.

أولًا: التعريف القانوني لحق الإنسان في بيئة سليمة

يُعَدّ مصطلح "حق الإنسان في بيئة سليمة " من المصطلحات الغامضة، بوصفه حقًّا حديث النشأة؛ إذ تثور صعوبات في تحديد نطاق الحماية التي يسعى القانون إلى بسطها على هذه القيمة الأساسية من قيم المجتمع.

ويقتضي ذلك التطرق إلى مفهومه من حيث نشأته الأولى وتطوره على الصعيد الدولي؛ تمهيدًا لتحديد مفهومه على نطاق المعاهدات الدولية.

ومن ثم؛ سنبيّن موقف الفقه من هذا الحق فيما بين معارض ومؤيد لإقراره حقًا من الحقوق.

1. يُعرَّف الحق في اللغة بأنه الشيء الثابت الذي لا يجوز إنكاره، أمّا حق الإنسان أو حقوق الإنسان عمومًا، فهي تلك الحقوق المتأصلة لجميع البشر، أيًّا كانت جنسياتهم، وأماكن إقامتهم، وأصولهم العرقية أو القومية أو الدينية أو ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم أو أيًّا كان.

كما هو معلوم أن جميع البشر متساوون في تلك الحقوق من دون تمييز، بحيث تشكّل تلك الحقوق وحدة مترابطة لا تتجزأ، وإن إنكار تلك الحقوق ليس مأساة فردية فقط، بل إنه يمتدّ ليخلق ظروف اضطرابات اجتماعية وسياسية ونشر بذور العنف والصراع بين المجتمعات والدول.

2. تُعرّف البيئة بأنها كل ما يحيط بالإنسان من عناصر حية وغير حية، تُحدِث انسجامًا وبتفاعل لإيجاد وسط مناسب، بحيث تعدّ المحافظة على سلامة هذا الوسط وملاءمته لحياة الإنسان هي الهدف من هذه الحماية التي تسعى إليها البشرية عبر قوانين البيئة المحلية، وكذلك الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

جدير بالذكر أن هذا الحق غير محدد بوضوح، إلّا أنه يمكن القول، إن التشريعات تدور في إطار معيارين: أحدهما عضوي أو شكلي، والآخر وظيفي أو موضوعي.

ويركّز المعيار الشكلي على الوعاء المتمثل في البيئة ومواردها، ولها قيمة ذاتية، بينما المعيار الموضوعي يقوم على اعتبارات تتصل بالمستفيد الأول من الحفاظ على البيئة، وهو حماية الإنسان بصورة ذاتية، بحساب أن ما يحيط به من بيئة يؤثّر مباشرةً في حياته وصحته وسلامته.

ويؤخذ على هذا المعيار أنه يتجاهل حق الإنسان في بيئة سليمة من جانب، ويتضمن عنصرًا عضويًا يخصّ البيئة ذاتها، يتمثل في حمايتها وصيانة مواردها بوصفها قيمة ذاتية تضمن استمرار الحياة، بالإضافة إلى تضمُّنه عنصرًا وظيفيًّا يتعلق بالغاية التي من أجلها يجري الحفاظ على البيئة، وهي الإنسان، والذي من حقه أن يعيش في بيئة سليمة خالية من الأخطار التي تهدد حياته وكرامته وبقاءه.

3. يعرّف حق الإنسان في بيئة سليمة بأنه حق كل إنسان في العيش في وسط حيوي، أو بيئي متوازن وسليم، والتمتع والانتفاع بموارد الطبيعة على نحو يكفل له حياة لائقة وتنمية متكاملة لشخصيته من دون إخلال بما عليه من واجب صيانة البيئة ومواردها والعمل على تحسينها وتنميتها ومكافحة مصادر تدهورها وتلوثها.

لأن أيّ تعريف أو تحديد لمضمون حق الإنسان في البيئة يجب أن يعي كلا المعيارين؛ حيث يظهر "الالتزام" المقابل لـ"الحق" من خلالها، فبقدر ما يكون الالتزام بحماية البيئة وصيانة وتنمية مواردها، يتأكد حق الإنسان في الانتفاع بها وتحقيق حياته الكريمة وتنميته المتكاملة؛ لأن الإنسان نفسه يعتمد على البيئة ومواردها، وتدهورها يعني تدهور الإنسان، وتنميتها تعني تنميته.

مصادر الطاقة الخضراء
مصادر الطاقة الخضراء

ثانيًا: تحديد مفهوم حق الإنسان في بيئة سليمة بالمعاهدات الدولية

الملاحظ أن المعاهدات الدولية قد حددت مفهوم حق الإنسان في بيئة سليمة ضمنًا من خلال الإشارة إليه في النصوص المتعلقة بالحق في الصحة، والحق في الغذاء، كما جاء في نص المادة 12 الفقرة 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر/كانون الأول 1966.

كما جاء في نص المادة 24 الفقرة 2 من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989، من خلال الإشارة ضمنًا إلى أن التلوث البيئي يشكّل خطرًا على الأغذية ومياه الشرب النقية، وهو ما يشكّل تهديدًا لإعمال حق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي يمكن بلوغه.

ويبين ذلك وجود علاقة وثيقة بين أثر التدهور البيئي في حقوق الإنسان عامة، وبشكل أخصّ حقه في الغذاء والصحة؛ فالإنتاجية الزراعية تتوقف على الخدمات التي تقدّمها النظم البيئية الإيكولوجية، وأن حق الإنسان في الغذاء يعتمد على توافر المواد الغذائية في تربة سليمة، وعلى مياه خالية من الملوثات، وعلى المناخ المناسب لإنتاجها.

ومن ثم، فإن التدهور البيئي الذي ينتج قضية تغير المناخ ينعكس سلبًا على حق الإنسان في غذاء سليم يؤمّن احتياجاته لكفالة حقه في الحياة وحقه في الصحة، الأمر الذي ينتهك من خلاله حق الإنسان في بيئة سليمة.

ومن هذا المنطلق، يتبيَّن أنّ تحسين المستوى المعيشي والصحي لا يمكن أن يتحقق إلّا في نطاق بيئة سليمة، ومن ثم القول، إن الحق في مستوى معيشي لائق أو الحق في الصحة يستغرق الحق في البيئة السليمة، الأمر الذي فسَّرته تلك المعاهدات من خلال تحديد مفهوم حق الإنسان في بيئة سليمة ضمنًا.

ومن ثم، ازداد الاهتمام بهذا الحق من قبل المعاهدات الدولية، وتجاوزت الإعلانات والاتفاقيات الدولية اللاحقة النص الضمني للحق إلى النص الصريح لتحديد مفهومه.

وجاء نص المادة 24 من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان الصادر في نيروبي في 18 يونيو/حزيران 1981، الذي يشير إلى أن "لكل الشعوب الحق في بيئة مُرضية وشاملة وملائمة لتنميتها".

كما جاء نص المادة 11 الفقرة 1 من البروتوكول الإضافي الملحق بالاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمسمى أيضًا "بروتوكول سان سلفادور" والذي اعتمدته الجمعية العامة لمنظمة البلدان الأميركية، الصادر عام 1988، على أن: "لكل فرد الحق بالعيش في بيئة صحية، والحصول على الخدمات العامة الأساسية".

وذلك بجانب نص المادة الأولى من الميثاق العالمي للطبيعة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1982، الذي نصَّ على أن "للإنسان حقًا أساسًا في الحرية والمساواة وفي ظروف معيشية مُرضية وفي بيئة محيطة تسمح له بالحياة بكرامة ورفاهية، وعلى الإنسان واجب مقدس في حماية وتحسين البيئة للأجيال الحاضرة والمستقبلة".

أشارت اتفاقية آرهوس الخاصة بالنفاذ إلى المعلومات ومشاركة الجمهور في صنع القرار والوصول إلى العدالة في مجال البيئة -التي صيغت برعاية لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا بتاريخ 25 يونيو/حزيران 1998- صراحةً إلى حق الإنسان في بيئة سليمة في المادة الأولى، التي نصّت على أن "حق كل شخص ممن ينتمون إلى الأجيال الحاضرة والقادمة العيش في بيئة تكفل تمتُّعه بالصحة والعافية".

كما نصَّ الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عام 2004 في المادة 38 صراحةً على أن "لكل شخص الحق في مستوى معيشي كافٍ يضمن له الرفاهية والعيش الكريم والحق في بيئة سليمة".

بالإضافة إلى نص المادة 28 من إعلان حقوق الإنسان الذي اعتمدته رابطة أمم جنوب شرق آسيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، صراحةً على أن "الحق في بيئة آمنة ونظيفة ومستدامة كعنصر من عناصر الحق في مستوى معيشي لائق".

الطاقة المتجددة في المغرب

ثالثًا: حق الإنسان في بيئة سليمة.. وفق المعاهدات

نخلص مما سبق، فيما يتعلق بحق الإنسان في بيئة سليمة، إلى:

1. المعاهدات الدولية لم تحدد مفهوم الحق بشكل واضح، وبالأحرى، لا يوجد أيّ إعلان أو معاهدة دولية خاصة بحق الإنسان في بيئة سليمة تحدّد مفهومه بدقّة.

واكتفت تلك المعاهدات الدولية بالإشارة إلى حق الإنسان في بيئة سليمة ضمن موضوعاتها بشكل أوسع مما سبق.

2. فكلّ معاهدة دولية أسهمت بتحديد مفهوم حق الإنسان في بيئة سليمة وفق نوع التلوث الذي تكافحه، أو بحسب موضوع الحق الذي تحميه.

وبناءً عليه؛ يمكن القول، إن تحديد مفهوم حق الإنسان في بيئة سليمة قد تأثَّر من خلال تحديد نوع التلوث الذي تكافحه، أو موضوع الحق الذي تحميه.

ومن المعاهدات ما ينص على حق كل فرد في بيئة سليمة إيكولوجيًا، من خلال الحفاظ على عناصر البيئة، كالإسهام في حماية الهواء والتربة والمياه والبحار المتجمدة والنبات والحيوان وصونها.

ومنها ما يحدده على أنه يقع في إطار عدم التعرض للتلوث، ومنها ما يحدده في إطار الحق بالحصول على أغذية ومياه سليمة وصحية، ومنها ما يحصره في إطار الحق بالحصول على المعلومات الخاصة بالبيئة.

رابعًا: موقف الفقه من حق الإنسان في بيئة سليمة

اختلف الفقهاء في الاعتراف بحق الإنسان في بيئة سليمة؛ بوصفه حقًّا حديث النشأة، بين مؤيد وبين رافض له.

ويستند أصحاب الموقف الرافض إلى أن العديد من المواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان لم تنصّ عليه صراحةً، وإنْ تضمّنت نصوصًا تهدف إلى تحسين ظروف الحياة بصفة عامة.

كما يرى أن حق الإنسان في بيئة سليمة لا يرقى إلى مرتبة الحقوق والالتزامات، ذلك أنه لا يوجد ما يسمى الحق الذاتي للإنسان بالعيش في بيئة سليمة، ومن ثم فإن هذا الحق لا يلازم الوضع الإنساني، بل هو خارج نطاقه، ولا يمكن أن يشبه حق الإنسان في الحياة مثلًا، ويستندون في ذلك إلى الحجج الآتية:

1. تعريف حق الإنسان في بيئة سليمة يكتنفه كثير من الغموض، وذلك بسبب غموض مصطلح البيئة نفسه؛ لأن مصطلح البيئة يمكن تفسيره بطرق عديدة، وأن الحق غير المعرَّف بدقّة تصعب حمايته من حيث المبدأ، ولذلك لا يصلح لأن يكون محلًا لدعوى قضائية.

2. كما أنه حق غير واضح المعالم وغير محدد المضمون، سواء لمحلّه أو صاحبه، وهذا ما يُلقي ظلالًا من الشك حول تحقيقه وحمايته من خلال الأدوات والمؤسسات القانونية المعهودة في النظم الداخلية والنظام القانوني الدولي.

فمن ناحية مضمونه، هل يتعلق بحماية الإنسان ذاته من ناحية تأمين وسط صحي وسليم صالح للحياة الإنسانية الكريمة، على نحو يحفظ صحة الإنسان ويحقق تقدّمه وتنمية شخصيته؟ أو هو حق يتعلق فقط بحماية البيئة نفسها وصيانة مواردها، بما يستتبع في النهاية حماية الإنسان نفسه؟ ومن ناحية صاحبه، هل هذا الحق يتعلق بالإنسان بصفته فردًا، أم يتعلق بحماية النوع الإنساني والمجتمع عمومًا؟.

3. إن فكرة الحق في بيئة سليمة فكرة غريبة، وكان من الأفضل الحديث عن مصلحة الإنسان في بيئة سليمة؛ إذ إن فكرة الحق في البيئة ذاتها تتعارض مع تعاليم الفن القانوني التي تبصر أنه من الأدقّ الكلام عن مصلحة، وليس عن حق الإنسان في بيئة، وأنه من المعلوم أن المصلحة هي عنصر في الحق، وليست هي الحق ذاته، وهي لا تعدّ كذلك إلّا إذا ساندها القانون أو أسبغ عليها حمايته، فالذي يملك رفع المصالح إلى مصافّ الحقوق هو القانون.

ومن الأفضل الكلام في هذه المرحلة عن مجموعة من القيم والمبادئ الاجتماعية، وليس الكلام عن حق قانون (7) في فرض أن الحق في بيئة سليمة لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد إدراجه في إعلانات أو عهود ومواثيق لا تتمتع إلّا بقيمة أدبية، وتفتقد الطابع القانوني الملزم، ومن ثم يكون من العسير عَدُّها منشِئة لـ"حق" الإنسان في بيئة سليمة، يقابله واجب والتزام قانوني باحترامه.

4. إن هذا الحق قد يتعارض مع سائر حقوق الإنسان الأخرى، ويؤدي إلى إهدارها، فعلى سبيل المثال: تفرض القيود والتدابير البيئية على المصانع التي تلوث البيئة إمّا تقليل نشاطها، وإمّا الصرف على أجهزة منع التلوث، وهذا يهدد الحق في العمل.

فلو اعتمدنا الحق في البيئة؛ فسنغلق المنشآت التي تسبّب تلوثًا، ومن ثم نُهدر مجالات كثيرة لتوفير فرص عمل للأفراد، مع وجود حق الإنسان في العمل، فتتعارض حقوق الإنسان، وكذلك الحق في الملكية، فينبغي ألّا يهدّده اقتطاع أماكن للمناطق المحمية ومستلزمات التخطيط العمراني.

المباني الخضراء
المباني الخضراء

موقف مؤيدي حق الإنسان في بيئة سليمة وحججهم

يعترف هذا الاتجاه بأن حق الإنسان في بيئة سليمة هو حق مثالي، يهدف إلى إيجاد نظام قانوني من أجل تحقيق حماية الإنسان، وذلك من خلال توفير الوسط الملائم والصحي والمناسب لحياته وتنمية شخصه.

وهذا لا يمنع من القول بأن حق الإنسان في البيئة السليمة والمتوازنة هو حق متميز عن حقوق الإنسان الأخرى -بصرف النظر عن مدى استقلاليته أو تكامله مع تلك الحقوق-، بل يجب توفير النظام القانوني المناسب لممارسته وحمايته، وحججها هي:

1. فيما يتعلق بالاعتراض الأول، الذي يكمن في صعوبة تعريف الحق في بيئة سليمة؛ بسبب غموض مصطلح البيئة، فيمكن القول، إن هذه الظاهرة لا تقتصر على الحق في البيئة وحده، وإنما تمتد لتشمل جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه الحقوق جميعها تعتمد على العديد من العوامل الخارجية لكفالتها.

بالإضافة إلى أن عدم وضوح هذا الحق لا يصلح وحده أن يكون سببًا لرفضه كلّيًا، بل كان من الأفضل لو بُحِثَ عن مضمون واضح ومحدد لمفهوم البيئة لتحديد نطاق حماية هذا الحق.

2. فيما يتعلق بالقول، إن حق الإنسان في بيئة سليمة لا يصلح أن يكون محلًا لدعوى قضائية؛ فإن عدم حماية الحق عن طريق الدعوى القضائية لا يصلح لأن يكون سببًا لإنكار هذا الحق؛ لأن الدعوى القضائية، وإن كانت وسيلة لحماية الحقوق، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة.

بل إن هذه الحماية يمكن توفيرها بإجراءات أخرى، قد تكون تشريعية، وقد تكون إدارية، وقد تكون إعلامية، كما أنه قد حدثت تطورات عديدة على كثير من المواثيق الدولية والدساتير.

3. لا ينقض بتأكيد وجود حق الإنسان في بيئة سليمة ضمن إطار حق الإنسان في الحياة والسلامة، أن الإعلان أو العهد الدولي أو المواثيق الدولية لم تنصّ صراحة على هذا الحق؛ إذ إنه في الوقت الذي صدرَ فيه ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم تكن مشكلات البيئة والمخاطر التي تهددها قد ظهرت بالنحو الذي هي عليه الآن.

ويؤكد ذلك أن الأعمال القانونية الدولية الحديثة قد تلافت ذلك، وحرصت على النص الصريح على حق الإنسان في بيئة سليمة، ومن ذلك، الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر/كانون الأول 1969 حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي الذي نصَّ في المادة 13 منه على أنه يجب أن يستهدف التقدم والإنماء الاجتماعي، وكذلك التحقيق التدريجي للأهداف الرئيسة التالية "ج: حماية البيئة البشرية وتحسينها".

كما جاء في المادة 25/أ ضرورة "وضع تدابير قانونية وإدارية لحماية وتحسين البيئة البشرية على المستويين القومي والدولي"، ونذكر أيضًا الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان الصادر في نيروبي في 18 يونيو/حزيران 1981، الذي نصَّ في المادة 24 على أن "لكل الشعوب الحق في بيئة مُرضية وشاملة وملائمة لتنميتها".

وجاء في مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي النص في المادة 18 أنه "لكل إنسان الحق في أن يعيش في بيئة ملائمة خالية من التلوث"، بالإضافة إلى الميثاق العالمي للطبيعة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1982، الذي نصَّ في المادة 1 على أنه "للإنسان حق أساس في الحرية والمساواة وفي ظروف معيشية مُرضية وفي بيئة محيطة تسمح له بالحياة بكرامة".

4. من ناحية انعدام السند القانوني لوجود هذا الحق؛ فإن معظم الإعلانات والعهود والمواثيق الدولية تناولت حق الإنسان في بيئة سليمة بصفته يدخل في المبادئ العامة للقانون التي ارتضتها الأمم المتمدنة، وهو ما يُطلَق عليه "القانون اللين" الذي بدأ يتكون في الآونة الأخيرة في مجال قانون حقوق الإنسان، وقانون التنمية والتعاون الاقتصادي، الذي لا تخلّ قواعده من قدر من الإلزام يؤهلها لأن تشكل نظامًا قانونيًا بالمعنى الفني للاصطلاح.

وإن كانت تلك المبادئ قد وُضعت في وقت لم تكن المخاطر البيئية بهذه الدرجة من الوضوح لحداثتها؛ الأمر الذي أقرّته بعد ذلك كثير من الدساتير بالنص على حق الإنسان في البيئة، وواجبه في الحفاظ عليها أيضًا.

تغير المناخ

خامسًا: علاقة حق الإنسان في بيئة سليمة بالحق في التنمية المستدامة

ينتمي كل من الحق في التنمية المستدامة والحق في البيئة السليمة إلى الجيل الثالث للحقوق؛ بوصف التنمية المستدامة أحد مضامين حق الإنسان في بيئة سليمة.

وتُعنى التنمية المستدامة بالإجابة عن السؤال: ماذا نفعل كي نضمن الحفاظ على الجنس البشري بحالة صحية ونفسية مقبولة، بل جيدة، لأطول مدة ممكنة؟

وكي نجيب عن هذا السؤال، ينبغي أن نأخذ بالحسبان حال البيئية بمجالاتها كافة؛ فضلًا عن إدارة الموارد الطبيعية واختيار الأنسب منها لتحقيق الأهداف المذكورة آنفًا، إلى جانب توفير الحدّ الأدنى من الراحة والرفاهية المطلوبة كي يكون الإنسان إنسانًا.

وهذا مفهوم يسهم في إعادة العلاقة بين الإنسان والكون والذكاء الطبيعي والتناغم ما بين الإنسان والطبيعة، مع أخذ مصالح الأجيال القادمة بالحسبان.

هناك ربط محكم بين التنمية المستدامة وحق الإنسان في بيئة سليمة، ينمّ عن علاقة تكامل وتوازن بينهما؛ إذ تُعدّ البيئة وعاء التنمية، وإن التردي الذي قد يعتري البيئة خلال تنفيذ خطط التنمية سيؤثّر حتمًا تأثيرًا مباشرًا في تلك الخطط ويعوق تلك العمليات.

من هنا؛ فإن مراعاة صون الموارد الطبيعية وترشيد استغلالها سيترتب عليه نجاح خطط التنمية، ورفع المستوى المعيشي، وتوفير الرفاهية للمواطنين، استنادًا إلى ما أشار إليه إعلان ريو الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية لعام 1992 م، إذ بيَّن في المبدأ الأول منه أن "الجنس البشري يدخل في صميم الاهتمامات المتعلقة بالتنمية المستدامة، وله الحق في أن يحيا حياة سليمة ومنتجة بما ينسجم مع الطبيعة".
التوصيات

في هذا الإطار، نوصي بعدد من الأمور التي تضمن حق الإنسان في بيئة سليمة، وهي:

  • تفعيل نظر المحكمة الدستورية لحق الإنسان في بيئة سليمة؛ لارتباطه الوثيق بحقوق دستورية أخرى؛ الأمر الذي يقتضي ضرورة الإشارة إليه في متون الأحكام لضمان حماية دستورية أكثر فاعلية له.
  • ضرورة الإسراع في إصدار تشريع جامع مانع لكل جوانب البيئة، مع إلغاء التشريعات المتفرقة والقديمة غير المعمول بها، وخاصة مع تطور المشكلات البيئية واستحداثها في العصر الحالي، التي تتطلب وجود تشريعات تتضمن آليات وعقوبات مستحدثة تتناسب مع انتهاكات البيئة الجديدة؛ لنصل إلى فلسفة ومرجعية تشريعية واحدة يُتَّفق عليها عند تشريع القوانين الجديدة أو إلغاء القوانين القديمة؛ بغرض توحيد الحماية المتكاملة لحق الإنسان في بيئة سليمة.
  • نوصي البرلمان بضرورة تسليط الضوء على حق الإنسان في بيئة سليمة، وتفعيل أدواته الرقابية؛ بما يضفي الحماية الفاعلة لحقّ الإنسان في بيئة سليمة.
  • في ظل عدم وجود أيّ معاهدة دولية تضع قواعد عامة لحماية حق الإنسان في بيئة سليمة خصوصًا، نوصى أيضًا بضرورة تكاتف المجتمع الدولي بإصدار وثيقة دولية تتعلق بحقّ الإنسان في بيئة سليمة؛ لتضمن الحماية الدولية الكافية؛ الأمر الذي يقرّ الواجبات والالتزامات الدولية في سبيل الحماية الفاعلة لهذا الحق.
  • إنشاء محاكم خاصة للنظر بمسائل انتهاكات حق الإنسان في بيئة، كما هو الحال في نيوزيلندا، أو تخصيص دوائر قضائية بيئية متخصصة، كما هو الحال في مصر، إلى جانب تخصيص نيابة خاصة للبيئة، كما في قطر.

* الدكتورة جميلة مرابط.. متخصصة في شؤون الطاقة والاستدامة البيئية، ورئيسة مجلس الباحثات المتعدد التخصصات.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق قرار حاسم من وليد الركراكي اتجاه مهاجم جديد بالمنتخب المغربي
التالى المغرب يستعد لمفاجئة “فيفا” بخصوص قرعة كأس العالم 2030